فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَإِذْ قَالَ الله يا عيسى ابن مَرْيَمَ} معطوف على {إذ قال الحواريون} منصوب بما نَصَبه من المُضمر المخاطَبِ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، أو بمُضمر مستقلَ معطوفٍ على ذلك، أي اذكُرْ للناس وقت قولِ الله عز وجل له عليه السلام في الآخرة توبيخًا للكَفَرة وتبكيتًا لهم، فإقرارُه عليه السلام على رؤوس الأشهاد بالعبودية، وأمرُه لهم بعبادته عز وجل، وصيغة الماضي لما مرّ من الدلالة على التحقّق والوقوع {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين} الاتخاذُ إما متعدَ إلى مفعولين (فإلهين) ثانيهما، وإما إلى واحد فهو حال من المفعول، وليس مدارُ أصل الكلامِ أن القول متيَقَّنٌ، والاستفهامَ لتعيين القائل كما هو المتبادَرُ من إيلاء الهمزةَ المُبتدأ على الاستعمال الفاشي، وعليه قوله تعالى: {قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا} ونظائرُه، بل على أن المتيقَّنَ هو الاتخاذُ والاستفهامُ لتعيين أنه بأمره عليه السلام، أو من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى: {أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} وقوله تعالى: {مِن دُونِ الله} متعلق بالاتخاذ ومحله النصب على أنه حال من فاعله، أي متجاوزين الله، أو بمحذوفٍ هو صفة لإلهين، أي كائنيْن من دونه تعالى، وأيًا ما كان فالمرادُ اتخاذُهما بطريق إشراكهما به سبحانه كما في قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا} وقولِه عز وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} إلى قوله سبحانه وتعالى: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} إذْ به يتأتّى التوبيخُ ويتسنّى التقريعُ والتبكيت. ومَنْ توهم أن ذلك بطريق الاستقلال، ثم اعتذر عنه بأن النصارى يعتقدون أن المعجزاتِ التي ظهرت على يد عيسى ومريمَ عليهما الصلاة والسلام لم يخلُقْها الله تعالى، بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلَّيْن، ولم يتخذوه تعالى إلها في حق ذلك البعض، فقد أبعد عن الحق بمراحِلَ، وأما من تعمق فقال: إن عبادته تعالى مع عبادة غيره كلا عبادةٍ، فمن عبده تعالى مع عبادتهما كأنه عبدهما، ومن لم يعبُده تعالى فقد غفَل عما يُجْديه واشتغل بما لا يَعْنيه كدأب مَنْ قبلةَ، فإن توبيخهم إنما يحصُل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحًا، لا بما يلزَمُه بضربٍ من التأويل، وإظهارُ الاسم الجليل لكونه في حيِّز القولِ المُسند إلى عيسى عليه السلام.
{قَالَ} استئناف مبنيٌّ على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل: فماذا يقول عيسى عليه السلام حينئذ؟ فقيل: يقول، وإيثارُ صيغة الماضي لما مرّ مرارًا {سبحانك} (سبحان) عَلمٌ للتسبيح، وانتصابُه على المصدرية، ولا يكاد يُذْكر ناصبُه، وفيه من المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق، من السَّبْح الذي هو الذهاب والإبعادُ في الأرض، ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل، ومن جهة العدولِ من المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصةً، المشيرِ إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن، ومن جهة إقامته مُقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى، أي أنزهك تنزيهًا لائقًا بك من أن أقول ذلك أو من أن يقالَ في حقك ذلك، وأما تقديرُ من أن يكونَ لك شريكٌ في الألوهية فلا يساعده سِياقُ النظم الكريم وسياقُه، وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ} استئنافٌ مقرِّر للتنزيه ومبين للمُنَزَّه منه، و(ما) عبارة عن القول المذكور، أي ما يستقيم وما ينبغي لي أن أقول قولًا لا يحِقّ لي أن أقوله، وإيثارُ ليس على الفعل المنفيِّ لظهور دلالتِه على استمرار انتفاءِ الحقية وإفادةِ التأكيد بما في حيزه من الباء، فإن اسمه ضميرُه العائد إلى (ما)، وخبرَه (بحق) والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين كما في سُقيًا لك أو نحوه.
وقوله تعالى: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} استئناف مقرِّرٌ لعدم صدور القولِ المذكور عنه عليه السلام بالطريق البرهاني، فإن صدورَه عنه مستلزِمٌ لعلمه تعالى به قطعًا، فحيثُ انتفى علمُه تعالى به انتفى صدورُه عنه حتمًا ضرورةَ أن عدمَ اللازم مستلزِمٌ لعدم الملزوم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذْ قَالَ الله} عطف على قوله: {إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك} [المائدة: 110] فهو ما يقوله الله يوم يجمع الرسل وليس ممّا قاله في الدنيا، لأنّ عبادة عيسى حدثت بعد رفعه، ولقوله: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم}.
فقد أجمع المفسّرون على أنّ المراد به يوم القيامة.
وأنّ قوله: {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس} قول يقوله يوم القيامة.
وهذا مبدأ تقريع النصارى بعد أن فُرغ من تقريع اليهود من قوله: {إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك} [المائدة: 110] إلى هنا.
وتقريع النصارى هو المقصود من هذه الآيات كما تقدّم عند قوله تعالى: {يوم يجمع الله الرسل} [المائدة: 109] الآية، فالاستفهام هنا كالاستفهام في قوله تعالى للرسل: {ماذا أجبتم} [المائدة: 109] والله يعلم أنّ عيسى لم يقل ذلك ولكن أريد إعلان كذب من كفر من النصارى.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {أأنت قلت للناس} يدلّ على أنّ الاستفهام متوجّه إلى تخصيصه بالخبر دون غيره مع أنّ الخبر حاصل لا محالة.
فقول قائلين: اتّخِذوا عيسى وأمّه إلهين، واقع.
وإنّما ألقي الاستفهام لعيسى أهو الذي قال لهم ذلك تعريضًا بالإرهاب والوعيد بتوجّه عقوبة ذلك إلى من قال هذا القول إن تنصّل منه عيسى فيعلم أحبارهم الذين اخترعوا هذا القول أنّهم المراد بذلك.
والمعنى أنّه إن لم يكن هو قائل ذلك فلا عذر لمن قاله لأنّهم زعموا أنّهم يتّبعون أقوال عيسى وتعاليمه، فلو كان هو القائل لقال: اتّخذوني وأمّي، ولذلك جاء التعبير بهذين اللفظين في الآية.
والمراد بالناس أهل دينه.
وقوله: {من دون الله} متعلّق بِ {اتّخذوني}، وحرف {من} صلة وتوكيد.
وكلمة {دون} اسم للمكان المجاوز، ويكثر أن يكون مكانًا مجازيًا مرادًا به المغايرة، فتكون بمعنى (سوى).
وانظر ما تقدّم آنفًا عند قوله تعالى: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا} [المائدة: 76].
والمعنى اتّخذوني وأمّي إلهين سوى الله.
وقد شاع هذا في استعمال القرآن قال تعالى: {ومن الناس من يتّخذ من دون الله أندادًا يحبّونهم كحبّ الله} [البقرة: 165]، وقال: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18]، وغير ذلك من الآيات التي خوطب بها المشركون مع أنّهم أشركوا مع الله غيره ولم ينكروا إلهيّة الله.
وذُكر هذا المتعلّق إلزامًا لهم بشناعة إثبات إلهية لغير الله لأنّ النصارى لمّا ادّعوا حلول الله في ذات عيسى توزّعت الإلهية وبطلت الوحدانية.
وقد تقدّم بيان هذا المذهب عند تفسير قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم} في هذه السورة (17).
وجواب عيسى عليه السلام بقوله: {سبحانك} تنزيه لله تعالى عن مضمون تلك المقالة.
وكانت المبادرة بتنزيه الله تعالى أهمّ من تبرئته نفسه، على أنّها مقدّمة للتبرّي لأنّه إذا كان ينزّه الله عن ذلك فلا جرم أنّه لا يأمر به أحدًا.
وتقدّم الكلام على {سبحانك} في قوله تعالى: {قالوا سبحانك لا علم لنا} في سورة البقرة (32).
وبرّأ نفسه فقال: {ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق}؛ فجملة {ما يكون لي أن أقول} مستأنفة لأنّها جواب السؤال.
وجملة {سبحانك} تمهيد.
وقوله: {ما يكون لي} مبالغة في التبرئة من ذلك، أي ما يوجد لديّ قول ما ليس لي بحقّ، فاللام في قوله: {ما يكون لي} للاستحقاق، أي ما يوجد حقّ أن أقول.
وذلك أبلغ من لم أقله لأنّه نفى أن يوجد استحقاقه ذلك القول.
والباء في قوله: {بحقّ} زائدة في خبر {ليس} لتأكيد النفي الذي دلّت عليه {ليس}.
واللام في قوله: {ليس لي بحقّ} متعلّقة بلفظ {حقّ} على رأي المحقّقين من النحاة أنّه يجوز تقديم المتعلّق على متعلّقه المجرور بحرف الجرّ.
وقدّم الجارّ والمجرور للتنصيص على أنّه ظرف لغو متعلّق {بحقّ} لئلا يتوهّم أنّه ظرف مستقرّ صفة لـ{حقّ} حتى يفهم منه أنّه نفى كون ذلك حقًّا له ولكنّه حقّ لغيره الذين قالوه وكفروا به، وللمبادرة بما يدلّ على تنصّله من ذلك بأنّه ليس له.
وقد أفاد الكلام تأكيدَ كون ذلك ليس حقًّا له بطريق المذهب الكلامي لأنّه نفى أن يباح له أن يقول ما لا يحقّ له، فعُلم أنّ ذلك ليس حقًّا له وأنّه لم يقله لأجل كونه كذلك.
فهذا تأكيد في غاية البلاغة والتفنّن.
ثم ارتقى في التبرّئ فقال: {إن كنت قلته فقد علمته}، فالجملة مستأنفة لأنّها دليل وحجّة لمضمون الجملة التي قبلها، فكانت كالبيان فلذلك فصلت.
والضمير المنصوب في {قلته} عائد إلى الكلام المتقدّم.
ونصْب القول للمفرد إذا كان في معنى الجملة شائع كقوله تعالى: {كلاّ إنّها كلمة هو قائلها} [المؤمنون: 100]، فاستدلّ على انتفاء أن يقوله بأنّ الله يعلم أنّه لم يقله، وذلك لأنّه يتحقّق أنّه لم يقله، فلذلك أحال على علم الله تعالى.
وهذا كقول العرب: يعلم الله أني لم أفعل، كما قال الحارث بن عبّاد:
لَم أكُنْ من جُنَاتِعَا عَلِمَ الله وأني لِحرّها اليومَ صالٍ. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا في نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ}
المفسرون ذكروا فيه عبارات تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي وقيل: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك، وقيل: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وقيل: تعلم ما كان مني في الدنيا ولا أعلم ما كان منك في الآخرة، وقيل: تعلم ما أقول وأفعل، ولا أعلم ما تقول وتفعل. اهـ.

.قال السمرقندي:

{تَعْلَمُ مَا في نَفْسِى} يعني: ما كان مني في الدنيا {وَلاَ أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ} يعني: ولا أطلع على غيبك وما كان منك.
وقال أهل اللغة: نفس الشيء: جملة الشيء، وحقيقته، وذاته؛ فمعناه: تعلم ما في ضميري، ولا أعلم ما في حقيقتك وغيبك.
{إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب} ما كان وما يكون.
وقيل: {تَعْلَمُ مَا في نَفْسِى} التي نسبت إلي، وأمرتني بالتسليم إليك.
{وَلاَ أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ} التي سلمت إليك، فأنت مالكها بجميع ما كان وما يكون منها، وأنت علام الغيوب قبل كونها وكون فعلها. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله: {تعلم ما في نفسي} بإحاطة الله به، وخص النفس بالذكر لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات، والمعنى: أن الله يعلم ما في نفس عيسى ويعلم كل هذه الآية على قول من قال: إن توقيف عيسى عليه السلام كان إثر رفعه مستقيمة المعنى. لأنه قال عنهم هذه المقالة وهم أحياء في الدنيا وهو لا يدري على ما يوافون. وهي على قول من قال إن التوقيف هو يوم القيامة بمعنى أن سبقت لهم كلمة العذاب كما سبقت فهم عبادك تصنع بحق الملك ما شئت لا أمره مما عسى أن يكون في نفسه، وقوله: {ولا أعلم ما في نفسك} معناه ولا أعلم ما عندك من المعلومات وما أحطت به.
وذكر النفس هنا مقابلة لفظية في اللسان العربي يقتضيها الإيجاز، وهذا ينظر من طرف خفي إلى قوله: {ومكروا ومكر الله} [آل عمران: 54] {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15]، فتسمية العقوبة باسم الذنب إنما قاد إليها طلب المقابلة اللفظية إذ هي من فصيح الكلام وبارع العبارة. اهـ.